كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى النسائيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة كلُّهم حقٌّ على الله عزّ وجل عونُهم المجاهدُ في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب الذي يريد الأداء».
الثالثة: قوله تعالى: {لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي طَوْل نكاح؛ فحذف المضاف.
وقيل: النكاح هاهنا ما تُنكح به المرأة من المهر والنفقة؛ كاللِّحاف اسم لما يُلتحف به.
واللباس اسم لما يلبس؛ فعلى هذا لا حذف في الآية، قاله جماعة من المفسرين؛ وحملهم على هذا قوله تعالى: {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عِدم المال الذي يتزوّج به.
وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف؛ وذلك ضعيف، بل الأمر بالاستعفاف متوجّه لكل من تعذّر عليه النكاح بأيّ وجه تعذّرَ، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.
الرابعة: من تاقت نفسه إلى النكاح فإن وجد الطَّوْل فالمستحبّ له أن يتزوّج، وإن لم يجد الطول فعليه بالاستعفاف ما أمكن ولو بالصوم فإن الصوم له وِجَاء؛ كما جاء في الخبر الصحيح.
ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى.
وفي الخبر: «خيركم الخفيف الحاذِ الذي لا أهل له ولا ولد» وقد تقدّم جواز نكاح الإماء عند عدم الطَّول للحرة في النساء والحمد لله.
ولما لم يجعل الله له بين العفّة والنكاح درجةً دلّ على أن ما عداهما محرّم، ولا يدخل فيه مِلْك اليمين؛ لأنه بنصّ آخر مباح، وهو قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فجاءت فيه زيادة، ويبقى على التحريم الاستمناء ردًّا على أحمد.
وكذلك يخرج عنه نكاح المتعة بنسخه، وقد تقدّم هذا في أول المؤمنين.
قوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فيه ست عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} {الذين} في موضع رفع.
وعند الخليل وسيبويه في موضع نصب على إضمار فعل؛ لأن بعده أمرًا.
ولما جرى ذكر العبيد والإماء فيما سبق وصل به أن العبد إن طلب الكتاب فالمستحب كتابته؛ فَرُبَّما يقصد بالكتابة أن يستقل ويكتسب ويتزوّج إذا أراد، فيكون أعفّ له.
قيل: نزلت في غلام لحُوَيْطِب بن عبد العُزَّى يقال له صبح وقيل صبيح طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حُوَيطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارًا فأدّاها، وقتِل بحُنَيْن في الحرب؛ ذكره القُشَيْرِيّ وحكاه النقاش.
وقال مَكِّي: هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بَلْتَعَة.
وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر المؤمنين كافة أن يكاتِب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك الكتابة وعلم سيّده منه خيرًا.
الثانية: الكتاب والمكاتبة سواء؛ مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين، لأنها معاقدة بين السيّد وعبده؛ يقال: كاتب يكاتب كتابًا ومكاتبة، كما يقال: قاتل قتالًا ومقاتلة.
فالكتاب في الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع.
وقيل: الكتاب هاهنا هو الكتاب المعروف الذي يكتب فيه الشيء؛ وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابًا.
فالمعنى يطلبون العتق الذي يُكتب به الكتاب فيدفع إليهم.
الثالثة: معنى المكاتبة في الشرع: هو أن يكاتِب الرجل عبده على مال يؤدّيه مُنَجَّمًا عليه؛ فإذا أدّاه فهو حُرّ.
ولها حالتان: الأولى: أن يطلبها العبد ويُجِيبه السيّد؛ فهذا مطلق الآية وظاهرها.
الثانية: أن يطلبها العبد ويأباها السيد؛ وفيها قولان: الأوّل لعكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دِينار والضحاك بن مُزاحم وجماعة أهل الظاهر أن ذلك واجب على السيد.
وقال علماء الأمصار: لا يجب ذلك.
وتعلّق من أوجبها بمطلق الأمر، وافعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره.
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبري.
واحتج داود أيضًا بأن سِيرِين أبا محمد بن سِيرين سأل أنس بن مالك الكتابة وهو مولاه فأبى أنس؛ فرفع عمر عليه الدِّرة، وتلا {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فكاتبه أنس.
قال داود: وما كان عمر ليرفع الدّرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله.
وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن.
وكذلك لو قال له أعتقني أو دَبِّرْني أو زوّجني لم يلزمه ذلك بإجماع، فكذلك الكتابة؛ لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراضٍ.
وقولهم: مطلق الأمر يقتضي الوجوب صحيح، لكن إذا عَرِي عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه؛ فعلّق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيّد بالخيريّة.
وإذا قال العبد: كاتبني؛ وقال السيد: لم أعلم فيك خيرًا؛ وهو أمر باطن، فيرجع فيه إليه ويعوّل عليه.
وهذا قويّ في بابه.
الرابعة: واختلف العلماء في قوله تعالى: {خَيْرًا} فقال ابن عباس وعطاء: المال.
مجاهد: المال والأداء.
الحسن والنَّخَعِيّ: الدِّين والأمانة.
وقال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقولون هو القوّة على الاكتساب والأداء.
وعن الليث نحوه، وهو قول الشافعيّ.
وقال عَبيدة السَّلْمانِيّ: إقامة الصلاة والخير.
قال الطحاوي: وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا؛ لأن العبد مالٌ لمولاه، فكيف يكون له مال.
والمعنى عندنا: إنْ علمتم فيهم الدِّين والصدق، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبّدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في المعاملة فكاتبوهم.
وقال أبو عمر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالًا، وإنما يقال: علمت فيه الخير والصلاح والأمانة؛ ولا يقال: علمت فيه المال، وإنما يقال علمت عنده المال.
قلت: وحديث بَرِيرة يردّ قول من قال: إن الخير المالُ؛ على ما يأتي.
الخامسة: اختلف العلماء في كتابة من لا حِرْفة له؛ فكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حِرْفة، ويقول: أتأمرني أن آكل أوساخ الناس؛ ونحوه عن سَلْمان الفارسي.
وروى حَكيم بن حِزام قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عُمير بن سعد: أما بعد! فانه من قِبَلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقّاءهم على مسألة الناس.
وكرهه الأوزاعِيّ وأحمد وإسحاق.
ورخّص في ذلك مالك وأبو حنيفة والشافعيّ.
وروي عن عليّ رضي الله عنه أن ابن التّيّاح مؤذّنَه قال له: أكاتَب وليس لي مال؟ قال: نعم؛ ثم حض الناسَ على الصدقة عليّ؛ فأعطوْني ما فضل عن مكاتبتي، فأتيت عليًّا فقال: اجعلها في الرّقاب.
وقد روي عن مالك كراهة ذلك، وأن الأَمَة التي لا حِرفة لها يكره مكاتبتها لما يؤدّي إليه من فسادها.
والحجة في السنة لا فيما خالفها.
روى الأئمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلتْ عليَّ بَرِيرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين، كلّ سنة أوقيّة، فأعِينِينِي. الحديث.
فهذا دليل على أن للسيد أن يكاتب عبده وهو لا شيء معه؛ ألا ترى أن بَرِيرة جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أوّل كتابتها قبل أن تؤدّي منها شيئًا؛ كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا؛ أخرجه البخاري وأبو داود.
وفي هذا دليل على جواز كتابة الأَمَة، وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، ولم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم هل لها كسب أو عمل واصب أو مال، ولو كان هذا واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بُعث مبيِّنًا معلِّما صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأوّل في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أن المال الخير، ليس بالتأويل الجيد، وأن الخير المذكور هو القوّة على الاكتساب مع الأمانة.
والله أعلم.
السادسة: الكتابة تكون بقليل المال وكثيره، وتكون على أنْجُم؛ لحديث بَرِيرة.
وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد لله.
فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلًا نُجّمت عليه بقدر سِعايته وإن كره السيّد.
قال الشافعيّ: لابد فيها من أجل؛ وأقلها ثلاثة أنجم.
واختلفوا إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد.
وقال الشافعيّ: لا تجوز على نجم واحد، ولا تجوز حالّةً ألْبَتَّةَ، وإنما ذلك عتْق على صفة؛ كأنه قال: إذا أدّيتَ كذا وكذا فأنت حر وليست كتابة.
قال ابن العربيّ: اختلف العلماء والسّلف في الكتابة إذا كانت حالّة على قولين، واختلف قول علمائنا كاختلافهم.
والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجّلة؛ كما ورد بها الأثر في حديث بَريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أُوقِيّة، وكما فعلت الصحابة؛ ولذلك سُمِّيت كتابة لأنها تُكتب ويُشهد عليها، فقد استوسق الاسم والأثر، وعَضَده المعنى؛ فإن المال إن جعله حالًا وكان عند العبد شيء فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة لا عقد كتابة.
وقال ابن خُوَيْزِمَنْداد: إذا كاتبه على مال معجَّل كان عتقًا على مال، ولم تكن كتابة.
وأجاز غيره من أصحابنا الكتابة الحالّة وسماها قِطاعة، وهو القياس؛ لأن الأجل فيها إنما هو فسحة للعبد في التكسّب.
ألا ترى أنه لو جاء بالمنجّم عليه قبل مَحِلّه لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجّل للمكاتَب عتقَه.
وبجواز الكتابة الحالّة؛ قال الكوفيون.
قلت: لم يرد عن مالك نصّ في الكتابة الحالّة؛ والأصحاب يقولون: إنها جائزة، ويسمّونها قِطاعة.
وأما قول الشافعي إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح؛ لأنه لو كان صحيحًا لجاز لغيره أن يقول: لا يجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأنها أقلّ النجوم التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بَرِيرة، وعلِم بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وقضى فيها، فكان بصواب الحجة أوْلى.
روى البخاري عن عائشة أن بَرِيرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواق نُجّمت عليها في خمس سنين.
الحديث.
كذا قال الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين.
وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت بَرِيرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق.
الحديث.
وظاهر الروايتين تعارض، غير أن حديث هشام أوْلى لاتصاله وانقطاع حديث يونس؛ لقول البخاري: وقال الليث حدثني يونس؛ ولأن هشامًا أثبت في حديث أبيه وجدّه من غيره، والله أعلم.
السابعة: المكاتَب عبدٌ ما بقي عليه من مال الكتابة شيء؛ لقوله عليه السلام: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم» أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.
وروي عنه أيضًا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما عبدٍ كاتب على مائة دينار فأدّاها إلا عشرة دنانير فهو عبد» وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابِهم والثورِيّ وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود والطبري.